فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وبالحق أنزلناه وبالحق نَزَل} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن إنزاله حق.
الثاني: أن ما تضمنه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد حق.
{وبالحق نزل} يحتمل وجهين:
أحدهما: وبوحينا نزل.
الثاني: على رسولنا نزل.
{وما أرسلناك إلا مبشرًا ونذيرًا} يعني مبشرًا بالجنة لمن أطاع الله تعالى، ونذيرًا بالنار لمن عصى الله تعالى.
قوله عز وجل: {وقرآنًا فرقناه} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: فرقنا فيه بين الحق والباطل، قاله الحسن.
الثاني: فرّقناه بالتشديد وهي قراءة ابن عباس أي نزل مفرّقًا آية آية وهي كذلك في مصحف ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب: فرقناه عليك.
الثالث: فصّلناه سُورًَا وآيات متميزة، قاله ابن بحر.
{لتقرأه على الناس على مُكْثٍ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: يعني على تثبت وترسّل، وهو قول مجاهد.
الثاني: أنه كان ينزل منه شيء، ثم يمكثون بعد ما شاء الله، ثم ينزل شيء آخر.
الثالث: أن يمكث في قراءته عليهم مفرقًا شيئًا بعد شيء، قاله أبو مسلم.
قوله عز وجل: {قل آمنوا بِه أو لا تؤمنوا} يعني القرآن، وهذا من الله تعالى على وجه التبكيت لهم والتهديد، لا على وجه التخيير.
{إن الذين أوتوا العلم من قَبله} فيهم وجهان:
أحدهما: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن.
الثاني: أنهم أناس من اليهود، قاله مجاهد.
{إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سُجّدًا} فيه قولان:
أحدهما: كتابهم إيمانًا بما فيه من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني: القرآن كان أناس من أهل الكتاب إذا سمعوا ما أنزل منه قالوا: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا، وهذا قول مجاهد.
وفي قوله: {يخرُّون للأذقان} ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن الأذقان مجتمع اللحيين.
الثاني: أنها ها هنا الوجوه، قاله ابن عباس وقتادة.
الثالث: أنها اللحى، قاله الحسن. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)}.
الضمير في قوله: {أنزلناه} عائد على القرآن المذكور، وفي قوله: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} [الإسراء: 89] ويجوز أن يكون الكلام آنفًا. وأشار بالضمير إلى القرآن على ذكر متقدم لشهرته، كما قال {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32].
وهذا كثير، قال الزهراوي: معناه بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس {بالحق} في نفسه، وقوله: {وبالحق نزل}، يريد {بالحق} في أوامره ونواهيه وأخباره فبهذا التأويل يكون تكرار اللفظ لمعنى غير الأول، وذهب الطبري إلى أنهما بمعنى واحد، أي بأخباره وأوامره وبذلك نزل، وقوله: {وقرآنًا} مذهب سيبويه أن نصبه بفعل مضمر يفسره الظاهر بعد، أي {وفرقنا قرآنًا} ويصح أن يكون معطوفًا على الكاف في {أرسلناك} من حيث كان إرسال هذا وإنزال هذا المعنى واحد، وقرأ جمهور الناس: {فرَقناه} بتخفيف الراء، ومعناه بيناه وأوضحناه وجعلناه فرقانًا، وقرأ ابن عباس وقتادة وأبو رجاء وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي بن كعب والشعبي والحسن بخلاف، وحميد وعمرو بن فائد {فرّقناه} بتشديد الراء، إلا أن في قراءة ابن مسعود وأبي: {فرقناه عليه لتقرأه} أي أنزلناه شيئًا بعد الشيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله: {لتقرأه على الناس على مكث}، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة، واختلف أهل العلم في كم القرآن من المدة؟ فقيل: في خمس وعشرين سنة، وقال ابن عباس: في ثلاث وعشرين سنة، وقال قتادة في عشرين سنة، وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الوحي بدأ وهو ابن أربعين، وتم بموته، وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال: نزل القرآن في ثمان عشرة سنة، وهذا قول يختل لا يصح عن الحسن والله أعلم، وتأولت فرقة قوله عز وجل: {على مكث} أي على ترسل في التلاوة، وهو ترتيل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد، والتأويل الآخر أي {على مكث} وتطاول في المدة شيئًا بعد شيء، وقوله: {ونزلناه تنزيلًا} مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية، وأجمع القراء على ضم الميم من {مُكث}، ويقال مَكث ومِكث بفتح الميم ومكث بكسرها، وقوله: {قل آمنوا به} الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد، والمعنى أنكم لستم بحجة، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة، واختلف الناس في المراد بـ {الذين أوتوا العلم من قبله}، فقالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة: هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما.
وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه، وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح، فنزلت الآية فيهم، وقالت فرقة: المراد بـ {الذين أوتوا العلم من قبله} محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في {قبله} عائد على القرآن حسب الضمير في {به}، ويبين ذلك قوله: {إذا يتلى}، وقيل الضميران لمحمد. واستأنف ذكر القرآن في قوله: {إذا يتلى}، وقوله: {للأذقان} أي لناحيتها، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما، وعليهما قال ابن عباس: المعنى للوجوه، وقال الحسن: المعنى للحي، و{الأذقان} أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض، لا سيما عند سجوده، وقال الشاعر: [الطويل]
فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم ** سباع من الطير العوادي وتنتف

و{إن} في قوله: {إن كان} هي عند سيبويه المخففة من الثقيلة، واللام بعدها لام التوكيد، وهي عند الفراء النافية، واللام بمعنى إلاّ، ويتوجه في هذه الآية معنى آخر وهو أن يكون قوله: {آمنوا به أو لا تؤمنوا} مخلصًا للوعيد دون التحقير، والمعنى فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب، أي أن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر، بل الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة، {إذا يتلى عليهم} ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا.
{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}.
هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحض لكل من ترسم بالعلم وحصل منه شيئًا أن يجري إلى هذه الرتبة، وحكى الطبري عن التميمي أنه قال: إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علمًا ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية كلها. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وبالحق أنزلناه} الهاء كناية عن القرآن، والمعنى: أنزلنا القرآن بالأمر الثابت والدِّين المستقيم، فهو حَقٌّ، ونزوله حق، وما تضمنه حق.
وقال أبو سليمان الدمشقي: {وبالحق أنزلناه} أي: بالتوحيد، {وبالحق نزل} يعني: بالوعد والوعيد، والأمر والنهي.
قوله تعالى: {وقرآنا فَرَقناه} قرأ علي عليه السلام، وسعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والأعرج، وأبو رجاء، وابن محيصن: {فرَّقناه} بالتشديد.
وقرأ الجمهور بالتخفيف.
فأما قراءة التخفيف، ففي معناها ثلاثة أقوال.
أحدها: بيَّنَّا حلاله وحرامه، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: فرقنا فيه بين الحق والباطل، قاله الحسن.
والثالث: أحكمناه وفصَّلناه، كقوله تعالى: {فيها يُفرَق كُلُّ أمر حكيم} [الدخان: 4]، قاله الفراء.
وأما المشددة، فمعناها: أنه أُنزل متفرِّقًا، ولم ينزل جملة واحدة.
وقد بيَّنَّا في أول كتابنا هذا مقدار المدة التي نزل فيها.
قوله تعالى: {لتقرَأَه على الناس على مُكْثٍ} قرأ أنس، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاءٍ، وأبان عن عاصم، وابن محيصن: بفتح الميم؛ والمعنى: على تُؤدة وترسُّل ليتدبَّروا معناه.
قوله تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} هذا تهديد لكفار [أهل] مكة، والهاء كناية عن القرآن.
{إِن الذين أوتوا العلم} وفيهم ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم ناس من أهل الكتاب، قاله مجاهد.
والثاني: أنهم الأنبياء عليهم السلام، قاله ابن زيد.
والثالث: طلاب الدِّين، كأبي ذر، وسلمان، وورقة بن نوفل، وزيد ابن عمرو، قاله الواحدي.
وفي هاء الكناية في قوله: {من قبله} قولان.
أحدهما: أنها ترجع إِلى القرآن، والمعنى: من قبل نزوله.
والثاني: ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن زيد.
فعلى الأول {إِذا يتلى عليهم} القرآن.
وعلى قول ابن زيد {إِذا يتلى عليهم} ما أُنزل إِليهم من عند الله.
قوله تعالى: {يَخِرُّون للأذقان} اللام هاهنا بمعنى على.
قال ابن عباس: قوله: {للأذقان} أي: للوجوه.
قال الزجاج: الذي يَخِرُّ وهو قائم، إِنما يَخِرُّ لوجهه، والذَّقْن: مُجْتَمع الَّلحيَين، وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يَخِرُّ، فأقرب الأشياء من وجهه إِلى الأرض الذقن. وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرضَ من الذي يَخِرُّ قبل أن يصوِّب جبتهه ذقنُه، فلذلك قال: {للأذقان}.
ويجوز أن يكون المعنى: يَخِرُّون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يُكتفى بالبعض من الكُلِّ، وبالنوع من الجنس.
قوله تعالى: {ويقولون سبحان ربِّنا} نزَّهوا الله تعالى عن تكذيب المكذِّبين بالقرآن، وقالوا: {إِن كان وعد ربنا} بإنزال القرآن وبعثِ محمد صلى الله عليه وسلم {لمفعولًا} واللام دخلت للتوكيد.
وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أن الله باعثٌ نبيًّا من العرب، ومُنزِلٌ عليه كتابًا، فلما عاينوا ذلك، حمدوا الله تعالى على إِنجاز الوعد، {ويَخِرُّون للأذقان} كرَّر القول ليدل على تكرار الفعل منهم.
{ويزيدهم خشوعًا} أي: يزيدهم القرآن تواضعًا.
وكان عبد الأعلى التيمي يقول: من أوتي من العلم ما لا يُبكيه، لَخليق أن لا يكون أوتيَ علمًا ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء فقال: {إِن الذين أوتوا العلم...} إِلى قوله: {يبكون}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} هذا متصل بما سبق من ذكر المعجزات والقرآن، والكناية ترجع إلى القرآن، ووجه التكرير في قوله: {وبالحق نزل} يجوز أن يكون معنى الأول: أوجبنا إنزاله بالحق، ومعنى الثاني: ونزل وفيه الحق؛ كقوله خرج بثيابه، أي وعليه ثيابه، وقيل الباء في {وبالحق} الأول بمعنى مع، أي مع الحق؛ كقولك ركب الأمير بسيفه أي مع سيفه.